ثار كثيرون لدى عرض فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين في دور السينما بالقاهرة، وكان أبرزهم بالطبع الأزهر الذي رفض تجسيد شخصية النبي يوسف. ولكن كان هناك المثقفون العلمانيون من ذوي النزوع القومي أيضاً. تساءل هؤلاء وقتها: من هذا الإسرائيلي ـ يوسف ـ الذي أتى ليعلِّم المصريين الزراعة؟ الحديث بالطبع عن قصة توراتية وقرآنية، حدثت قبل الصراع العربي الإسرائيلي. ولكن، لأن العداءات الحديثة يتم إسقاطها على التاريخ والذاكرة، فقد تم العثور على هذه الحجة: الإسرائيليون أهل رعي والمصريون أهل زراعة،. هم ليسوا مثلنا، هم بدو ونحن ذوو حضارة نهرية. نحن دولة مركزية متحضرة وهم رعاة غنم. الطريف أن هذا المنطق لم يلتقط الدقائق الأولى من الفيلم التي يصرح فيها البطل، يوسف، (أطلق عليه المخرج اسم "رام") لأبيه برغبته في الذهاب إلى مصر ليتعلم "زراعة الأرض".
المنطق الحضاري نفسه، منطق "نحن أصحاب حضارة نهرية، وهم رعاة غنم"، يسري على أهل الخليج أيضاً. دائما ما رأى المثقفون المصريون التشدد الإسلامي في المجتمع بوصفه ناتجاً عن هجرة المصريين إلى دول الخليج. دوما ما تقال هذه المعلومة بمرارة: نحن علمناهم (في إشارة إلى هجرة المدرسين المصريين إلى هناك)، وهم ـ رعاة الغنم أو الإبل- يصدِّرون لنا التطرف. هذا المنطق لا يفرق بين الإسرائيلي التوراتي وبين السعودي. هناك استثناء بسيط حدث بعد "30 يونيو"، وسببه لا يُخفى على أحد. بينما تحرِّض السلطة الجديدة وإعلامها بقوة ضد الفلسطينيين والسوريين في مصر، ويصمت القوميون على هذا التحريض، فإن هذا لا يسري على دول الخليج، باستثناء قطر بالطبع، لأسباب ـ أيضاً - لا تخفى على أحد. وبعد أن كان الخليج هو مصدر الشر أصبح هو مصدر الخير. يقول مصطفى بكري، الصحفي ذو الاتجاه الناصري، عن المعونات التي وعدت السعودية بتقديمها إلى مصر بعد "30 يونيو" أن هذه هي القومية العربية الحقيقية.
***
في هذا الحلف المقام بين المثقفين ـ من ذوي التوجه القومي العروبي ـ وبين السلطة العسكرية الجديدة، يسترعي الانتباه تناقض منطقي: كيف يصمت العروبيون على الخطاب الجديد في مصر الذي يَصِم الفلسطينيين بالخيانة، وكيف لا تصدر إدانة قوية منهم ضد تصرفات الشرطة تجاه اللاجئين السوريين مثلاً؟ ألا يفترض بهم الدفاع عن "أشقائهم العرب"؟ والسؤال بشكل أوضح: لماذا أصبحت الفكرة القومية العروبية في مصر وكأنها مرادف للوطنية المصرية؟
الفكرة ليست شيئاً مجرداً، بل تتطور وفق السياقات. شتان مثلا بين الداعين للقومية العربية في أوائل القرن العشرين، وكانوا في الغالب مسيحيين شوام، وكانت تركيا هي شغلهم الشاغل، والتحرر منها هو العنصر الملهم بالنسبة لهم، وبين تطور الفكرة لتصبح ضد إسرائيل في الخمسينيات فصاعداً، ثم، في تطورها الأخير في مصر، لتصبح مع الدولة المصرية ومتصالحة تماما مع الخطاب التحريضي ضد الفلسطينيين والسوريين، أي "العرب". التطور الأخير هو ما يعنينا هنا.
بداية، يعي الجميع أنه لم يكن ممكناً لفكرة القومية العربية أن تأخذ دفعة بدون عبد الناصر، البطل الملحمي الذي حارب الإمبريالية وأسس نوعاً، قد يكون مخففاً، ولكنه موجود، من العدالة الاجتماعية. كما أسس دولة مصرية قوامها الجيش. لسبب ما، ظل هذا المنجز الأخير هو المنجز الأكثر إلهاماً للقوميين والناصريين في مصر، لدرجة أنه يتم الآن النظر إلى سائر الشعارات الناصرية، كمحاربة إسرائيل والعدالة الاجتماعية، وغيرها، بوصفها مجرد رطانة مثالية. أما تأسيس منظومة الدولة البيروقراطية، وتأسيس الجيش "الوطني"، فقد بدا في الخطاب القومي المصري هو الإنجاز العملي والحقيقي والملموس.
لا يعني هذا أن الفكرة القومية، في طبعتها المصرية، قد توقفت طيلة العقود السابقة عن استلهام شعارات التحرر الوطني، والعداء لإسرائيل، والوحدة العربية. بالعكس تماماً، لقد ظلت تستلهم هذه الشعارات بقوة شديدة. ولكن السؤال الأهم هو كيف تم التعبير عن هذه الشعارات؟
***
في عام 1978 بدأ نشر مجموعة القصص البوليسية التي أخذت عنوان "الشياطين ال13" لكاتبها محمود سالم. صدرت الأعداد العشرة الأولى في بيروت ثم انتقلت إلى مصر بعد اندلاع الحرب الاهلية في لبنان. الأبطال في المجموعة كما يعرف الجميع، كانوا 13، كل من بلد عربي مختلف. هناك قائد سري لا يعرف حقيقته أحد، ولكن القائد المعلن لمجموعة الـ13 كان أحمد المصري. هذه حقيقة تبدو بديهية في أذهان الجميع، فإن كانت هناك وحدة عربية، فمن سيقوم بدور القيادة سوى مصر، الشقيقة الكبرى؟ يبدو هذا بديهياً لدرجة أن أحداً لم يتساءل بجدية عن السبب. السبب قد يكون تاريخياً بالمناسبة، أي وجود عبد الناصر بقوة لدى أي تحليل للقومية العربية، لدى أي خطاب شعبي عنها. لا يمكن تجاهل عبد الناصر، العملاق الذي خطا بـ"الخطاب القومي العروبي" خطوات مبهرة. في النهاية، ولهذا السبب التاريخي، كان من الصعب جدا على القوميين المصريين تخيل أي وجود للقومية العربية بدون قيادة مصر. كان هذا عنصراً مشتركاً بين الناصريين والساداتيين في مصر، فبينما يرى الناصريون أنه لا إمكانية لتحقيق وحدة عربية بدون قيادة مصر، يرى الساداتيون أن السادات عرض على الفلسطينيين استرداد أرضهم كاملة ولكن الفلسطينيين رفضوا، ولذا فهم يستحقون ما يحدث لهم.
***
يتم في الخيال الشعبي استحضار حلقتي الصراع مع إسرائيل، 1967 و1973 بوصفهما شأنا بين مصر وإسرائيل. احتلت إسرائيل سيناء في 1967 وحررتها مصر في1973 . وبينما يعتبر الناصريون حلقة كامب ديفيد كحلقة خاسرة، يميل الساداتيون لاعتبارها حلقة ناجحة، وفي كل الأحوال لا يتم ذكر الفلسطينيين. لا يتم ذكر الجولان ولا الضفة الغربية، ولا يتم استحضار 1948 إلا قليلاً. في ملحمة "رأفت الهجان" للكاتب صالح مرسي، وعلى مدار أجزائها الثلاثة، لا يرد ذكر للفلسطينيين، ربما مرة أو اثنتين فقط بوصفهم "العرب" الذي يريدون التعاقد مع شركة "ديفيد شارل سمحون" للسياحة. بطل مصري يعيش داخل إسرائيل لعشرين عاماً ولا يرى فلسطينياً واحداً! أما في فيلم "أولاد العم"، فيسافر بطل المخابرات المصري إلى إسرائيل ليحرر امرأة مصرية من زوجها ضابط الموساد الذي يختطفها هناك. تعاونه فتاة فلسطينية. يوجه لها الضابط المصري التعليمات طول الوقت، لا تسمعه جيداً. تسأله: "إيش؟" فيجيبها بنبرة سخرية: "مش وقت إيش خالص". الجملة التي يقولها الممثل كريم عبد العزيز بخفة ظل هي جملة مضحكة. من أين تنبع قدرتها على الإضحاك؟ من كون البطلة الفلسطينية، وأثناء لحظات الأكشن والخطر، مشغولة بالتحذلق والحديث باللهجة الفلسطينية. هي لم تقل "إيه"، وإنما "إيش".
في أفلام التسعينيات التجارية، كانت هناك موجة معادية لإسرائيل، قادها كاتب الأغاني والسيناريست مدحت العدل. في أغلب أفلامه، بما فيها الأكثر تجارية، نلمح العدو الإسرائيلي، ونلمح أيضاً كلاماً حول الوحدة العربية. في "همام في أمستردام" مثلا، يظهر البطل الشرير الذي يحاول إيذاء البطل المصري الطيب "محمد هنيدي". يبدو شره غريباً وغير مبرر إلى أن نعرف أن اسمه يودا وأنه إسرائيلي. وفي فيلم "مافيا" يتم تجنيد البطل المصري "أحمد السقا"، على يد رجال المخابرات المصرية ليحارب عصابة مجهولة تريد تنفيذ أحد تفجيراتها في القاهرة، ويتم حل اللغز عندما نرى على جهاز حاسوب العصابة نجمة داود. في فيلم "أصحاب ولا بيزنس"، المتأخر قليلاً، أي بعد انتشار العمليات الفدائية للفلسطينيين في أعقاب انتفاضة الأقصى، نلمح الفلسطيني أخيراً وهو يقوم بدور الشهيد، الذي يتعاطف معه المصريون. هذه هي صورة الفلسطيني كما تصوره الخيال الشعبي وقتها: ضحية تستحق التعاطف من المصريين، الذين يقومون هم بدور الأبطال. فيلم "باب الشمس" ليسري نصر الله بالمناسبة، والمأخوذ عن رواية إلياس خوري، ويحكي قصة التغريبة الفلسطينية كما يراها أصحابها بلغتهم، وليس كما يراها المصريون، كان هو الأقل شعبية وقتها.
نذكر هنا أيضاً الأوبريت ذات النزعة العروبية الوحدوية الواضحة، وهو أوبريت "الحلم العربي"، وكتبها مدحت العدل. كلمات "الحلم العربي" مكتوبة باللهجة المصرية، صحيح أن كلا من المغنين قد غناها بلكنته الخاصة، ولكن تظل اللهجة المصرية هي اللغة المهيمنة فوق الجميع. ومن أجل إضفاء مزيد من الدلالة على المشهد، فالتليفزيون المصري يستضيف وقتها صناع الأوبريت. تقول المذيعة لمدحت العدل إن الرئيس مبارك دائما ما ينادي بالسلام (وهو ما كان يعني وقتها السلام مع إسرائيل)، فيرد على منطقها بمنطق آخر. يذكّرها بأن الرئيس مبارك أيضاً دائما ما ينادي بالوحدة العربية. هكذا يقف المنطقان أمام بعضهما، منطق كامب ديفيد والمنطق المعادي لكامب ديفيد، وكل من المنطقين لا يجادل حول مبارك: بالعكس، هو البطاقة الشرعية التي يستخدمها كل من المنطقين.
أفلام التسعينيات، وخاصة تلك الأفلام المنشغلة بالتطبيع مع إسرائيل، تحوي تيمة أخرى. هي تستحضر بالطبع الصراع المصري الإسرائيلي، وهو الصراع المتكون من حلقتين مركزيتين، حلقة 1967 وحلقة 1973. في هذه الأفلام والأعمال الدرامية، مثلا، "الحب في طابا"، و"فتاة من إسرائيل"، وغيرها أيضاً، ينجرف أحد الأبطال المصريين ليصادق فتاة إسرائيلية. تحذره أمه أو أبوه من تجاهل ميراث الدم بيننا وبين الإسرائيليين. ومما يتكون ميراث الدم؟ يتكون من شهداء الجيش المصري. دائما هم شهداء الجيش المصري، الجنود والضباط. في كل أسرة قريب شهيد كان يخدم في الحرب وقتله الإسرائيليون. أين الفلسطينيون في كل هذا؟ هم إما تابعون أو غير مرئيين.
***
ومن دور التابع إلى دور العدو، كانت المسافة قصيرة. سيدهش أي زائر لمصر عندما يجد أناساً كثيرين للغاية، يتحدثون في الوقت ذاته بريبة شديدة عن الإسرائيليين وعن الفلسطينيين، ويتغنون بعبد الناصر، البطل الذي أتى السيسي على غراره، ويصفون السادات بالداهية الذي تنكر له "العرب" فاستحقوا ما يحدث لهم. ولهذا كله، لا يبدو غريباً الآن أن الخطاب القومي المصري المنشغل بتمجيد الجيش (وبين الحين والآخر يدين تفجيرات خط الغاز الذي يصل إلى إسرائيل)، ينظر إلى الفلسطينيين والسوريين بلا مبالاة تامة، إن لم يكن بتوجس أيضاً.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي" ]